إشفاق، من تغريدات أبي منصور الثعالبي

“كان امرؤ القيس الملك اللخمي ذا جمال ومنطق وكان ذا مصاحبة للذات عكوفا على اللهو وكان مع ذلك يرجع إلى عقل أصيل ورأي ثاقب فخرج ذات يوم فإذا هو برجل كأنه مفأد (عود إصلاح حطب الفرن) عليه أطمار (ثياب بالية) قد جمع عظاما من عظام الموتى وهي بين يديه يقلبها.
فقال له الملك ما قصتك أيها الرجل وما بلغ بك ما أرى من سوء الحال وشحوب اللون والانفراد في هذه الفلاة؟
فقال الرجل أما ما ترى من تغير حالي وشحوب لوني فإني على جناح سفر وبي موكلان يحدوان بي إلى منزل ضنك المحل مظلم القعر كريه المقر ثم يسلماني إلى مصاحبة البلاء ومجاورة الهلكى بين أطباق الثرى فلو تركت بذلك مع جفائه وضيقه ووحشته وتقطع أعضائي فيه وارتعاء خشاش الأرض في لحمي وعظمي وعصبي حتى أعود رفاتا وتصير أعظمي رسما لكان للبلاء انقضاء وللشقاء غاية ولنسيت ولكني أدفع بعد ذلك إلى صيحة الحشر وأردى أهوال مواقف الجزاء ثم لا أدري أي دار داري فبأي عيش يتلذذ من يعلم أن يكون إلى هذا صيوره (مصيره)!
فلما سمع الملك بهذه المقالة ألقى نفسه عن فرسه وقعد بين يدي الرجل وقال يا هذا لقد كدر علي مقالك صفو عيشي وملك الإشفاق قلبي فأعد علي بعض قولك واشرح لي حديثك!
فقال له الرجل أما ترى هذه العظام التي بين يدي قال بلى قال هذه عظام ملوك غرتهم الدنيا بزخرفها واستحوذت عليهم بغرورها وألهتهم عن التأهب لهذه المصارع حتى فاجأتهم الآجال وخذلتهم الآمال وغصبتهم عن الملك وسلبتهم عز النعيم ثم أودعتهم أطباق الأرض حتى صاروا إلى ما ترى وستنشر هذه العظام فتصير أجسادا ثم تجازى بأعمالها فإما إلى دار القرار وإما إلى محل البوار.
ثم املس الرجل (أفلت) فلم ير له أثر وتلاحق أصحاب الملك به وقد امتقع لونه وتواصلت عبراته فركب وقتذاك فلما جن عليه الليل قام إلى ما عليه من لباس الملك وألقاه ولبس طمرين وخرج فكان آخر العهد به”.

Related posts

Leave a Comment